أخلاقيات مهنة المحاسبة والمراجعة

أخلاقيات وسلوكيات مهنة المحاسبة والمراجعة

تُعد مهنة المحاسبة والمراجعة من أهم المهن التي ترتبط بشكل مباشر بصناعة القرار المالي في المؤسسات، وتتطلب مستوى عالياً من الأمانة والمهنية والانضباط السلوكي، إذ أن المحاسب والمراجع مسؤولان عن إعداد وتحليل وتدقيق المعلومات المالية التي يعتمد عليها صانعو القرار من إدارات ومساهمين وجهات تنظيمية. وفي ظل الأهمية البالغة للدقة والشفافية، تظهر الأخلاقيات والسلوكيات المهنية كمكون جوهري لا غنى عنه للحفاظ على نزاهة المهنة وثقة المجتمع بها. ويُعتبر الإخلال بأخلاقيات المهنة أو التهاون في الالتزام بسلوكياتها تهديداً مباشراً لمصداقية التقارير المالية، وللثقة في المؤسسات، وللاستقرار الاقتصادي ككل.

أولاً: تعريف أخلاقيات وسلوكيات المهنة

تشير أخلاقيات المهنة إلى مجموعة المبادئ والمعايير التي تحدد السلوك القويم الذي ينبغي أن يلتزم به المحاسبون والمراجعون عند ممارسة مهنتهم. أما السلوك المهني فيُعنى بكيفية تطبيق هذه المبادئ الأخلاقية بشكل عملي أثناء أداء المهام اليومية، ويشمل مجموعة من القيم الأساسية مثل الصدق، النزاهة، العدالة، الموضوعية، السرية، والامتثال للقوانين والمعايير المهنية.

ثانياً: المبادئ الأساسية لأخلاقيات المحاسبة والمراجعة

1. النزاهة

يُطلب من المحاسب والمراجع التحلي بالنزاهة في جميع الأوقات، أي التصرف بصدق وعدالة دون تزييف أو تضليل أو إخفاء للحقائق. إن النزاهة تقتضي ألا يشارك المهني في أي نشاط قد يؤدي إلى تحريف أو خداع مستخدمي القوائم المالية أو المستثمرين أو الجهات التنظيمية.

2. الاستقلالية والموضوعية

يجب على المحاسب والمراجع أن يكونا مستقلين فكرياً ومهنياً عن الضغوط المؤسسية أو الشخصية التي قد تؤثر على حكمهم المهني. كما يتوجب عليهما الابتعاد عن أي تضارب في المصالح قد يؤثر في حيادهم أو يؤدي إلى الانحياز في إصدار التقارير المالية أو إبداء الرأي الفني.

3. السرية

من واجب المحاسب والمراجع الحفاظ على سرية المعلومات التي يحصلان عليها أثناء العمل، وعدم استخدامها لأغراض شخصية أو الإفصاح عنها دون الحصول على موافقة قانونية أو مهنية. وتُعد السرية شرطاً أساسياً لبناء الثقة بين المؤسسة والمراجع الخارجي.

4. الكفاءة المهنية والعناية الواجبة

يتوجب على المحاسبين والمراجعين تطوير مهاراتهم وخبراتهم المهنية بانتظام، والحرص على أداء المهام بكفاءة عالية مع اتخاذ ما يلزم من عناية وحرص لتفادي الأخطاء المهنية أو الإهمال.

5. الامتثال للمعايير الفنية

يلتزم المحاسب والمراجع باتباع المعايير المحاسبية والمراجعية المعتمدة من الهيئات المحلية والدولية، وتجنب الاجتهادات الشخصية التي قد تضر بجودة العمل أو تؤدي إلى تحريف نتائج التقارير المالية.

ثالثاً: أهمية الالتزام بالأخلاقيات والسلوكيات المهنية

تكمن أهمية الالتزام بأخلاقيات وسلوكيات مهنة المحاسبة والمراجعة في عدة محاور جوهرية:

• تعزيز الثقة العامة: تؤدي السلوكيات الأخلاقية إلى بناء الثقة في التقارير المالية، سواء لدى المستثمرين أو الجهات الحكومية أو العموم.

• الوقاية من الفساد المالي: يُعد الالتزام الأخلاقي خط الدفاع الأول في وجه التلاعب، وغسيل الأموال، واختلاس الأصول.

• الرفع من جودة العمل المهني: يساهم التمسك بالمبادئ الأخلاقية في تحسين الأداء والكفاءة، مما ينعكس إيجاباً على مخرجات التقارير والتحليلات المالية.

• حماية سمعة المهنة: عندما يُعرف عن المهنة التزامها الصارم بالأخلاقيات، ينعكس ذلك إيجاباً على مكانة المحاسبين والمراجعين في المجتمع.

• تحقيق الاستدامة التنظيمية: يسهم السلوك الأخلاقي في تعزيز الاستقرار المالي والتنظيمي للمؤسسات، ويمنحها القدرة على النمو ومواجهة التحديات.

رابعاً: التحديات الأخلاقية في مهنة المحاسبة والمراجعة

رغم وضوح المبادئ الأخلاقية، إلا أن تطبيقها في الواقع العملي غالباً ما يصطدم بعدة تحديات قد تهدد نزاهة المهنة، ومن أبرز هذه التحديات:

1. الضغوط المؤسسية

قد يتعرض المحاسب أو المراجع لضغوط من الإدارة لتعديل نتائج التقارير بما يتماشى مع أهداف معينة كتحقيق أرباح غير حقيقية أو تأجيل إعلان خسائر، وهو ما يضعهم أمام صراع بين الواجب المهني ومتطلبات صاحب العمل.

2. تضارب المصالح

قد يظهر تضارب المصالح حين يكون المراجع مسؤولاً عن التدقيق في شركة يقدم لها في ذات الوقت خدمات استشارية أو محاسبية، ما قد يؤثر في حياديته.

3. ضعف الرقابة والتشريعات

في بعض البلدان، قد تكون الأجهزة الرقابية غير فعالة، أو تفتقر إلى آليات الإنفاذ، مما يُضعف الالتزام بالأخلاقيات، ويُسهم في زيادة الفساد المالي.

4. إغراءات الرشاوى والمكافآت

قد يتعرض المحاسب أو المراجع لمحاولات رشوة أو عروض مغرية لتجاهل أخطاء أو التلاعب بالمعلومات، مما يستوجب قوة داخلية والتزاماً مهنياً صلباً لمقاومتها.

خامساً: الممارسات المثلى لترسيخ السلوك الأخلاقي

لتعزيز السلوكيات الأخلاقية في مهنة المحاسبة والمراجعة، من الضروري اتخاذ مجموعة من الإجراءات التنظيمية والتعليمية:

1. تضمين الأخلاقيات في مناهج التعليم

ينبغي أن تحتوي برامج التعليم الجامعي والتدريب المهني على وحدات دراسية متخصصة في أخلاقيات المهنة، يتم فيها مناقشة الحالات الواقعية والتحديات الأخلاقية العملية.

2. الالتزام بمدونات السلوك المهني

توفر العديد من الهيئات المهنية كالاتحاد الدولي للمحاسبين (IFAC) أو هيئة المحاسبين السعودية أو المصرية أو غيرها، مدونات سلوك مفصلة تحدد ما هو مقبول وغير مقبول مهنياً، ويُطلب من الأعضاء الالتزام بها رسمياً.

3. التقييم المستمر والمساءلة

يُعد التقييم المستمر للأداء الأخلاقي للمحاسبين والمراجعين أحد أدوات الكشف المبكر عن الانحرافات، ويجب أن يترافق مع نظام مساءلة واضح وعقوبات فعالة.

4. تفعيل الرقابة الداخلية

على المؤسسات تعزيز نظم الرقابة الداخلية التي تُمكّن من الكشف عن أي ممارسات غير أخلاقية بسرعة، بما في ذلك إنشاء قنوات إبلاغ آمنة وسرية عن المخالفات الأخلاقية.

5. التدريب المهني المستمر

ينبغي توفير دورات تدريبية دورية للمحاسبين والمراجعين حول المبادئ الأخلاقية وتحديات تطبيقها، لتذكيرهم بمسؤولياتهم وتحديثهم بما يستجد من معايير.

سادساً: دور المنظمات المهنية في ترسيخ الأخلاق

تلعب المنظمات المهنية دوراً محورياً في حماية أخلاقيات مهنة المحاسبة والمراجعة، من خلال:

• تطوير الأدلة الإرشادية التي توضح كيفية التعامل مع المواقف الأخلاقية المعقدة.

• منح التراخيص والشهادات المهنية لمن يلتزم بالمعايير الأخلاقية ويحترم السلوك المهني.

• فرض العقوبات التأديبية على الأعضاء الذين يثبت إخلالهم بالأخلاقيات، بما في ذلك سحب الترخيص أو نشر أسمائهم علنياً.

• الرقابة على جودة الأداء المهني من خلال برامج مراجعة النظراء وقياس مستوى الامتثال الأخلاقي.

سابعاً: مقارنة دولية في أخلاقيات المحاسبة

ثامناً: حالات مشهورة لانتهاك الأخلاقيات

شهد العالم حالات شهيرة لانهيارات شركات كبرى نتيجة إخلال المحاسبين والمراجعين بالأخلاقيات المهنية، ومن أبرزها:

• شركة إنرون الأمريكية (2001): فضيحة مالية أدت إلى إفلاس الشركة بسبب تواطؤ شركة المراجعة “آرثر أندرسن” في إخفاء الخسائر، مما أدى لاحقاً إلى تفكيك شركة المراجعة وإنشاء قانون “ساربينز أوكسلي”.

• شركة بارمالات الإيطالية (2003): تم تزوير بيانات مالية ضخمة بمساعدة محاسبين داخليين وخارجيين، في واحدة من أكبر فضائح الاحتيال المالي في أوروبا.

• شركة وايركارد الألمانية (2020): تم تضخيم الأصول النقدية للشركة، رغم توقيع المراجعين الخارجيين على القوائم المالية، ما كشف ضعفاً أخلاقياً ومهنياً كبيراً.

تاسعاً: مستقبل أخلاقيات المحاسبة في ظل التحول الرقمي

مع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي والأنظمة المحاسبية الذكية، تظهر تحديات أخلاقية جديدة مثل:

• تحيّز الخوارزميات في تحليل البيانات المالية.

• إخفاء المسؤولية البشرية خلف الأنظمة الآلية.

• زيادة تعقيد الكشف عن التلاعبات في ظل السرعة الرقمية.

ويفرض ذلك على المحاسبين والمراجعين التزود بمعارف أخلاقية رقمية، والتأكد من التزام الأنظمة المستخدمة بمبادئ العدالة والشفافية وعدم التضليل.

الخاتمة

تُعد أخلاقيات وسلوكيات مهنة المحاسبة والمراجعة حجر الزاوية في بناء الثقة المؤسسية والأسواق المالية. وإن الحفاظ على هذه القيم ليس مجرد التزام قانوني، بل هو مسؤولية أخلاقية ومهنية عميقة تسهم في حماية الاقتصاد والمجتمع من الانهيارات المالية والانحرافات السلوكية. ومن هنا، فإن صون شرف المهنة يتطلب تظافر جهود المؤسسات التعليمية، والمنظمات المهنية، والرقابة الحكومية، والمحاسب نفسه في التمسك الصارم بالقيم التي قامت عليها المهنة.

المراجع:

1. International Federation of Accountants (IFAC), “Handbook of the Code of Ethics for Professional Accountants”, latest edition.

2. الهيئة السعودية للمراجعين والمحاسبين (SOCPA)، دليل قواعد السلوك المهني وآداب المهنة.